من كهف التاميرا الإسباني إلى ميكي ماوس والأقزام السبعة!
كيف اكتشبت الرسوم حيوية الحركة؟ من أين بدأت رحلة هذا الفن المدهش؟ وإلى أين وصلت؟ أسئلة كثيرة تدور حول عالم الرسوم المتحركة، حيث ذكريات الطفولة والصبا والكثير من الحنين.
في عالم يحتفل في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للرسوم المتحركة، نجد أنفسنا أمام فن عريق تجذر في التاريخ الإنساني.
هذا التاريخ لم يُختر صدفة، بل يمثل ذكرى أول عرض عام لـ"التمثيل الإيمائي المضيء" للمخترع الفرنسي الرائد إميل رينو عام 1892، وهو اليوم الذي شهد ولادة هذا الفن الساحر الذي سيطر على مخيلاتنا وأثرى ثقافتنا.
تطورت الرسوم المتحركة من مجرد وسيلة ترفيهية موجهة للأطفال إلى لغة بصرية عالمية تتخطى جميع الحواجز الثقافية واللغوية. دخلت مع الزمن في صميم صناعة الأفلام الطويلة التي تذهل المشاهدين، وباتت تشكل عماد الألعاب الإلكترونية التي تسلب الألباب، وتقف أيضا وراء إعلانات التسويق المؤثرة، وظهرت في أعمال فنية رفيعة وحدت الملايين من البشر عبر القارات.
لو عدنا بالزمن إلى الوراء، لوجدنا أن نقل الصور الحية ذات الحبكة المدروسة والشخصيات المميزة لم يكن متاحا كما هو اليوم. قبل عدة قرون، كان الأطفال يُتابعون الرسوم التوضيحية الثابتة في الكتب، دون أن يخطر ببالهم أن هذه الصور الساكنة قد تتحول يوما إلى عوالم متحركة نابضة بالحياة. الأكثر إثارة للدهشة أن الرسوم المتحركة سبقت اختراع التلفاز بنحو خمسين عاما، ما يؤكد ريادة هذا الفن وسبقه الزمني.
تعود المحاولات الأولى لالتقاط الحركة إلى العصور القديمة، حيث نجد في كهف التاميرا في إسبانيا لوحات صخرية رسم عليها الإنسان البدائي حيوانات بأرجل متعددة في أوضاع متراكبة، وكأنه يحاول أن يلتقط لحظة الحركة في لوحة ثابتة. كما احتوى الفن اليوناني القديم على أمثلة رائعة للصور المتسلسلة للحركة على المزهريات والآنية الفخارية، خاصة في مشاهد الخيول التي تجري بكل قوة أو المحاربين وهم يهمون بالحركة بكل جسارة. ولا يمكن إغفال مسارح الظل القديمة في آسيا، التي استخدمت أشكالا منحوتة تتحرك خلف الشاشات باستخدام خيوط أو عصي، مجسدة وهم الحركة الحية التي أسرت المتفرجين لقرون طويلة.
يمكننا القول إن الانطلاقة الحقيقية للرسوم المتحركة بدأت في عام 1832، عندما استطاع جوزيف بلاتو تحريك الرسوم باستخدام جهازه البصري المبتكر "الفيناكيستيسكوب". كانت فكرة هذا الجهاز العبقرية تقوم على تطوير سلسلة من الصور على دائرة دوارة، تمثل الكائن في مراحل متتابعة من الحركة. مع دوران الدائرة، تندمج هذه الرسومات معا، لتعطي للناظرين وهم حركة متسلسلة متكاملة.
هذا الجهاز، الذي عرف أيضاً بمنظار الخداع البصري، كان يتكون من قرص من الورق المقوى به ثقوب مشقوقة، على جانب واحد منه سلاسل مرسومة بأشكال متطابقة تتغير أوضاعها بتتابع مدروس.
يُعتبر رسميا عام 1877 بمثابة تاريخ ميلاد الرسوم المتحركة الحديثة. حينها عندما إميل رينو براءة اختراع "منظار التطبيق العملي"، وهو جهاز بصري متطور لإظهار الرسومات المتحركة. هذا الجهاز يتكون من أسطوانة دوارة ومصباح يدوي ومرايا محكمة.
لاحقا في عام 1892، تم إطلاق أول مسرح بصري في التاريخ، حيث عرض رينو اختراعه الرائد للجمهور لأول مرة. وفي نفس العام، قدم العالم الفرنسي للجمهور اختراعه الثوري "المنظار العملي"، الذي يمكن وصفه ببساطة كجهاز يشمل عدة إطارات متتالية. وعند بدء دوران البكرة، تندمج الصور في فيلم واحد متماسك، مبدعة وهم الحركة والديناميكية الذي يمكن وصفه بالسحر الحقيقي.
شهد عام 1893 عرض أولى الرسوم المتحركة القصيرة التي يمكن تسميتها بالرسوم المتحركة بالمعنى الحديث، وذلك قبل عامين كاملين من أول فيلم للأخوين لوميير.
مع ذلك، يعتبر فيلم "سيرك الأقزام" الذي أُنتج في عام 1898 أول فيلم رسوم متحركة حقيقي في التاريخ. هذا الكارتون الرائد صنع من الدمى المتحركة، واستخدمت فيه ألعاب خشبية مدروسة التصميم. ورغم أن العديد من مؤرخي الرسوم المتحركة يشككون في أهمية هذا العمل بسبب نقص الوثائق المؤكدة، إلا أن "المراحل الهزلية للوجوه المضحكة" يظل أول رسم كاريكاتوري معترف به رسميا من قبل الجميع، وكان صامتا بالكامل.
شكل تأسيس "شركة والت ديزني" نقطة تحول كبرى في مسيرة الرسوم المتحركة العالمية. فمنذ تأسيسها، أصبحت الشركة الرائدة في هذا المجال، وأنشأت أول رسم كاريكاتوري ناطق في التاريخ، ثم أول رسم كاريكاتوري ملون. وكان فيلم "الزهور والأشجار" أول رسوم متحركة ملونة قصيرة تفوز بجائزة الأوسكار المرموقة في عام 1934.
قدم والت ديزني للعالم في عام 1928 الشخصية الأسطورية ميكي ماوس في الفيلم القصير "باخرة ويلي". هذا الفيلم مثل علامة فارقة في تاريخ الرسوم المتحركة، وكان أول فيلم يستخدم الصوت المتزامن بشكل كامل.
فتح نجاح ميكي ماوس الباب على مصراعيه لولادة العديد من الشخصيات الأخرى التي أصبحت أيقونات في الثقافة العالمية، مثل دونالد داك وجوفي وميني ماوس.
بلغت الرسوم المتحركة ذروتها الإبداعية في عام 1937، عندما أصدر استوديو ديزني فيلم "سنو وايت والأقزام السبعة"، كأول فيلم رسوم متحركة روائي طويل في التاريخ. مثل هذا الفيلم يعد إنجازا تقنيا وفنيا غير مسبوق، حيث أثبت أن الرسوم الكاريكاتورية لا يمكن أن تكون فقط رسومات كوميدية قصيرة، بل أعمالا فنية كاملة ذات حبكة عميقة وشخصيات معقدة.
بعد ثلاث سنوات فقط، أنتج الاستوديو فيلم "سنو وايت والأقزام السبعة" بشكل مطور، ليكون أول رسم كاريكاتوري كامل الطول يفوز بجائزة الأوسكار، ماسحاً بالقديم كل ما سبقه، ورافعا سقف التوقعات لما يمكن أن تصل إليه الرسوم المتحركة.
لقد قطع فن الرسوم المتحركة شوطا طويلا منذ نشأته المتواضعة، متحولا من صور متحركة بسيطة إلى أعمال معقدة ومكثفة عاطفيا تستطيع جذب انتباه المشاهدين من جميع الأعمار والفئات.
في أيامنا هذه، لم تعد الرسوم المتحركة أدنى من الأفلام التقليدية من حيث عمق الحبكة وغنى المحتوى. بفضل التكنولوجيا الحديثة والتحسين المستمر لتقنيات الرسوم المتحركة، أصبح حتى الكبار يميلون إلى متابعتها بشغف لا يقل عن حماسة الأطفال، ما يؤكد مكانة هذا الفن الرائع الرفيعة في عالم الإبداع والإبهار البصري.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
من ارتفاع مهول.. قفزة غيّرت التاريخ ومسمارٌ غيّر المصير
كانا رفيقي سلاح، ضابطَين متمرسَين في اختبار المظلات. كلّفا عام 1962 بمهمة خطرة تتمثل في القفز من ارتفاع يزيد عن 25 كيلومترا. نفذا المهمة، ودخلا التاريخ، وإن اختلفت المصير.
ذابت الشوكولاتة فظهر فرن الميكروويف!
من اللافت أن أول فرن ميكروويف قد حمل في اسمه كلمة "رادار"، وأنتجته شركة معدات عسكرية. والمُلفت أكثر أنه كان بطول رجل، ووزنه زاد عن 300 كيلوغرام. فما قصة علاقته بالحرب؟
المخترع المجهول وسر أسرار "صندوق العجائب"!
حصل العالم الروسي بوريس روزينغ في 30 أكتوبر 1910 على براءة اختراع لـ "طريقة النقل الكهربائي للصور عن بعد"، بذلك يمكن اعتبار هذا التاريخ يوم ولادة التلفزيون الحديث الرسمي.
جحيم في نفق بـ "لؤلؤة القوقاز"!
في مساء الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1995، بينما كانت شمس الخريف تتوارى خلف أفق بحر قزوين، تحولت رحلة عادية في مترو باكو إلى كابوس لا يُنسى.
بين المجهود الحربي وسيقان النساء.. خيط غير العالم ويكاد يخنقه
قصة اختراع مادة النايلون ودخولها بسرعة إلى الحياة في مختلف المجالات مثيرة ولافتة. بدأ ذلك بإعلان شركة "دو بونت" اختراع النايلون رسميا في 27 أكتوبر 1937. هذا الخيط غير العالم.
"السبت الأسود".. رعب نووي من أقرب نقطة ممكنة!
لم يكن العالم أكثر قربا من نشوب حرب نووية كما كان عليه الحال قبل 63 عاما بالضبط. في هذا اليوم بلغ التوتر بين واشنطن وموسكو حول كوبا أقصى مداه، وكادت نيران الجحيم أن تشتعل.
"ملكة الضباب" داخل برميل مغلق!
ناهزت من العمر 63 عاما ومع ذلك خاضت في 24 أكتوبر 1901 مغامرة شديدة الخطورة. جلست داخل برميل ضخم مغلق وتدحرجت من قمة شلالات نياجارا وهوت إلى الأسفل مع المياه المتدفقة.
مدينتان مصريتان وصاروخ هتلر "الانتقامي"
ما الذي يمكن أن يربط مدينتي أسوان والإسكندرية المصريتين بصاروخ "في – 2" الألماني، وبحل لغز أبدي في صحراء نيو مكسيكو الأمريكية في 24 أكتوبر 1946؟.. الجواب في هذا التقرير.
التعليقات