رقصة أشباح على رقعة ثلج ملطخة بالدماء!
في أواخر عام 1890، كانت رياح الشتاء القارس تهب على سهول داكوتا الجنوبية حاملة معها رائحة اليأس والجوع والعذاب.
كانت تلك الفترة التي اعتُبرت فيها "المسألة الهندية" في أمريكا قد حُلّت بشكل جذري عن طريق دفع البقية الباقية من قبائل لاكوتا وسكان السهول العظام إلى محميات ضيقة، بعد أن تم تدمير قطعان البيسون الهائلة عمدا، ليس فقط من أجل الجلود أو التريض بملاحقتها، بل كجزء من استراتيجية مقصودة لحرمان السكان الأصليين من مصدر حياتهم الرئيس.
على ورق الاتفاقيات، كان هناك حديث عن التعاون المتساوي والوعود بالمساعدات، ولكن على أرض الواقع، لم يُنفذ منها سوى بنود الخضوع والإخلاء. كان الهنود يتضورون جوعا في أراض تضيق باستمرار تحت أقدام الباحثين عن الذهب والمزارعين الدخلاء، بينما ذهبت الوعود بالطعام والدعم أدراج الرياح، تاركة شعبا بكامله على شفا الهاوية.
في خضم هذا اليأس، برزت ديانة "رقصة الأشباح" كشعلة أخيرة من الأمل الروحي، وعدت بعودة الأجداد وازدهار الأرض من جديد. رأت السلطات في هذه الرقصة تهديدا يجب استئصاله. وكان سيتينغ بول، الزعيم الروحي لقبيلة هنكبابا لاكوتا والمحارب العتيد الذي أصبح رمزا للمقاومة، الهدف الرئيس.
في صباح الخامس عشر من ديسمبر 1890، حاصر كوخه الخشبي في محمية ستاندينغ روك 43 شرطيا تابعا للسلطات جاءوا لاعتقاله. وافق الزعيم الهادئ على مرافقتهم، لكن التوتر انفجر عندما حاول أتباعه الدفاع عنه. في الاشتباك الذي أعقب ذلك، أطلق أحد الحراس النار على قائد الشرطة، وفي الفوضى، اخترقت رصاصة طائشة جسد سيتينغ بول، لتقضي على آخر مقاومة كبيرة بدم بارد. نزل الخبر كالصاعقة. صحيفة "نيويورك تايمز" وغيرها احتفت بـ "آخر سيتينغ بول"، وكأن صفحة من تاريخ المقاومة طويت إلى الأبد. لكن الدماء التي سالت كانت مجرد شرارة.
انفجرت تلك الشرارة بعد أسبوعين فقط على شكل مأساة أكثر دموية ورعبا. في التاسع والعشرين من ديسمبر، تجمع المئات من أتباع قبيلتي مينيكونجو وهنكبابا لاكوتا، المنهكين من مسيرة شتوية قاسية، في مخيم على جدول ووندد ني في محمية باين ريدج. كان زعيمهم، القدم الكبيرة، طريح الفراش بمرض خطير، ولم تكن نية المقاومة المسلحة في بال أحد. لكن الفوج السابع من فرسان الجيش الأمريكي، بقيادة العقيد جيمس فورسيث، مع أربعة مدافع، حاصر المخيم بمئات الجنود المزودين بأسلحة حديثة. كانت المهمة الرسمية، نزع السلاح، لكن الغاية الحقيقية كانت الإخضاع الكامل.
رفض العديد من الرجال تسليم بنادقهم، فهي كانت وسيلة الصيد الوحيدة التي تعود عليهم بقوت يومهم في ذلك الشتاء القارس. تجاهل العقيد توسلاتهم، وأمر رجاله بتفتيش الخيام في انتهاك صارخ لكرامة المنازل والأعراض. بدأت صرخات النساء تتصاعد، وبدأ البعض بترديد أناشيد رقصة الأشباح ورمي حفنات من التراب في الهواء المتجمد، وهو عمل روحي تحول في أعين الجنود العصبيين إلى تهديد. في تلك اللحظة المشحونة بالخوف والغضب والاستعلاء، أطلق جندي النار.
بعد ذلك، انهمر وابل من الرصاص من الجنود المدججين بالسلاح، ليس على المحاربين فحسب، بل على كل ما يتحرك، رجالا ونساء يحتمون بأطفالهم، شيوخا يحاولون الفرار نحو الوديان المجاورة.
تحول المخيم الهادئ إلى جحيم من اللهيب والدخان والصراخات المفجوعة. حتى المدافع دكت المكان على من بقي فيه. حين هدأ الضجيج والعويل، لم يبق سوى صمت ثقيل يكسره عويل الثلج الذي بدأ بالتساقط.
رسميا، جمع الجيش 153 جثة، 88 رجلا، و44 امرأة، و18 طفلا. لكن شهود العيان من البيض أنفسهم تحدثوا عن مئات الجثث مبعثرة في الميدان والمناطق المجاورة، بينما تؤكد الروايات الهندية أن عدد الشهداء تجاوز الأربعمائة. الناجون كانوا بضع عشرات فقط، تركوا ليواجهوا مصيرهم في عاصفة ثلجية دامت ثلاثة أيام.
المفارقة القاسية تكمن في تفاصيل ما بعد الكارثة. من بين 25 جندياً قتلوا، وجد أن غالبيتهم لقوا حتفهم من نيران زملائهم العشوائية، مع وجود آثار لجراح من أسلحة باردة على بعض الجثث أيضا، دلالة على الاشتباك الفوضوي القريب. مع ذلك، مُنِح عشرون جنديا "وسام الشرف" على "بطولتهم"، وردت في حيثياتها عبارات صادمة مثل "للملاحقة المستمرة للهنود الفارين" و"لشجاعة لا مثيل لها في كبح جماح بغل خائف". بعد العاصفة، استأجر الجيش مدنيين ليجمعوا الجثث المتجمدة والملطخة ويقوموا بدفنها في حفرة جماعية على تل قريب.
لم تغب فداحة ما حدث على بعض قادة الجيش. الجنرال نيلسون مايلز، القائد الأعلى للمنطقة، وصفها صراحة بأنها "مذبحة" وأقال العقيد فورسيث من منصبه وفتح تحقيقا. لكن المحكمة العسكرية عام 1890 برأت الجميع، وأعادت فورسيث إلى منصبه لاحقا. وهكذا دخلت الحادثة السجلات الرسمية باسم "معركة ووندد ني"، وهو تزييف للتاريخ استمر لعقود.
استغرق الأمر أكثر من قرن من الزمان، وتحديدا في عام 2001، حتى أقر الكونغرس الأمريكي رسميا بأن ما حدث في ووندد ني لم يكن معركة، بل "مذبحة"، وأصدر قرارا بتكريم القتلى من الهنود الأمريكيين. اعتراف جاء متأخرا جدا على أولئك الذين سقطوا في ذلك اليوم البارد، وهو أيضا شهادة على فظاعة كبرى. ما جرى لم يكن مجرد حادثة عنف معزولة، بل كان تتويجا مأساويا لسياسة إبادة منهجية، ومثالا صارخا يُظهر كيف يمكن للخوف والجهل والسلطة العمياء أن تحول رقعة من الثلج إلى جدارية أبدية للعار.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
مجزرة في "نهر الدم"!
فجر 16 ديسمبر 1838، استيقظ وادي نهر إنكومي على وقع تحرك عسكري حاسم، ليكتب بحبر من دماء الآلاف فصلا مأساويا في تاريخ جنوب إفريقيا، عرف فيما بعد بمعركة نهر الدم.
حفل شاي غير التاريخ!
في أمسية باردة من ديسمبر عام 1773، تمايلت في ميناء بوسطن ثلاث سفن تجارية تحمل صناديق شاي تبدو عادية، لكنها كانت عمليا، ورقة مساومة في لعبة سياسية كبرى توشك أن تغيّر مصير قارة.
"ملك التأرجح" بين أتون الحرب وأحضان مومس
اختفت طائرة قائد الفرقة الموسيقية الأمريكي الشهير فوق القناة الإنجليزية في طريقها إلى باريس، وظهر بذلك لغز محير من ألغاز الحرب العالمية الثانية.
دماء أمريكية في مياه نهر صيني!
في صباح يوم مشمس وبارد من شهر ديسمبر عام 1937، كان نهر اليانغتسي يتدفق بهدوء كعهده عبر قلب الصين المضطرب، حاملا معه أخبار الحرب والدمار.
جبل لم تطأه قدم بشر بعد!
لطالما فتنت قمم الجبال الشامخة الإنسان منذ فجر التاريخ، وهي تقبّل السحاب وتلامس عنان السماء بتوقٍ صامت، كأنها حاجز أسطوري بين الأرض والسماوات.
قرر الاعتراف بجريمته لكن ابنيه كان لهما رأي آخر!
في الحادي عشر من ديسمبر من عام 2008، انكشفت فصول أكبر عملية احتيال مالي في التاريخ هزت الثقة في الأسواق المالية العالمية وهي في أوج أزمتها.
لغز "جميلة أتت" ثم فجأة اختفت!
في قلب تاريخ مصر القديمة حيث تلتقي أسرار الفراعنة بنهر النيل الخالد، يطل وجه جميل لا يزال يحير المؤرخين ويخطف الألباب بحسنه وغموضه العميقين، إنه وجه الملكة نفرتيتي.
في انتظار جائزة نوبل داخل زنزانة الإعدام!
في العاشر من ديسمبر عام 1901 وبينما كان العالم يحيي الذكرى الخامسة لرحيل ألفريد نوبل، شهدت قاعة الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في ستوكهولم حدثا تاريخيا.
التعليقات