"الحقيقة المفقودة" تُكشف بعد 6 قرون.. "أسطورة" أدبية عربية وراء رواية اجتياح الطاعون لطريق الحرير
لأكثر من ستة قرون، ظلت قصة الانتشار السريع للطاعون الأسود عبر طرق الحرير تروى كحقيقة تاريخية راسخة. لكن بحثا جديدا يكشف أن هذه الرواية قد تكون مجرد أسطورة نجمت عن سوء فهم أدبي.
ففي دراسة نشرتها مجلة Journal of Arabic and Islamic Studies، كشف الباحثون أن حكاية أدبية عربية من القرن الرابع عشر، أو كما تعرف باسم "المقامة"، كتبها ابن الوردي في حلب خلال وباء عام 1348–1349، جرى تفسيرها لاحقا بشكل خاطئ على أنها سرد واقعي لانتشار المرض من الصين إلى أوروبا.
Ancient Arabic Tale May Have Sparked Centuries of Black Death Myths https://t.co/uByPsjF5Vf
— ScienceBlog.com (@ScienceBlogTwit) November 4, 2025
وما بدأ كعمل أدبي تحول إلى "حقيقة" تاريخية عبر العصور. فالمقامة، التي تنتمي إلى فن عربي تقليدي يركز على شخصية "المخادع" المتجول، صورت الطاعون كشخصية متجولة تدمر منطقة تلو الأخرى على مدى 15 عاما، من أراضي ما وراء الصين وصولا إلى البحر المتوسط.

"قد يكون أول معبد في التاريخ".. اكتشاف "مبنى غامض" عمره 5 آلاف عام في العراق
لكن المؤرخين اللاحقين، بمن فيهم مؤرخو القرن الخامس عشر والعلماء الأوروبيون، فهموا هذا الوصف المجازي على أنه سرد تاريخي حرفي، ما أدى إلى نشوء ما يعرف بـ"نظرية الانتقال السريع" التي تزعم انتقال الطاعون من آسيا الوسطى إلى البحر المتوسط في أقل من عقد.
والأمر الأكثر إثارة أن بعض علماء الوراثة المعاصرين ما يزالون يستندون إلى هذه الرواية الأدبية لتبرير فرضياتهم حول سرعة انتشار بكتيريا اليرسينيا الطاعونية. فالنظرية القائلة بأن سلالة من هذه البكتيريا قطعت أكثر من 3000 ميل برا في بضع سنوات فقط، لتسبب الطاعون الأسود المدمر في أوروبا والشرق الأوسط بين 1347 و1350، تتعرض الآن لمراجعة جذرية.
وتدعي الدراسة الحديثة التي أعدها الباحثان محمد عمر ونهيان فانسي أن هذه المقامة الأدبية الواحدة أصبحت "محور شبكة عنكبوتية" من التفسيرات الخاطئة التي انتشرت على مدى قرون. فقد كتب ابن الوردي مقامته بأسلوب نثري موزون، مجسدا الطاعون كقوة مدمرة تجتاح البلاد مبتدئة من الصين فالهند فآسيا الوسطى فبلاد فارس، وصولا إلى البحرين الأسود والمتوسط. لكن الأجيال اللاحقة من القراء فهموا هذا الوصف المجازي على أنه سرد تاريخي حرفي، غافلين عن حقيقة أن هذا النمط من الكتابة كان شكلا أدبيا خياليا شائعا في ذلك العصر.

كيف كانت المايا تتنبأ بدقة بكسوف الشمس؟.. مخطوطة دريسدن الشهيرة تحل اللغز
ويقول البروفيسور فانسي: "جميع الطرق التي تؤدي إلى الوصف غير الدقيق لانتشار الطاعون تعود إلى هذا النص الوحيد. ولا ينبغي فهمه حرفيا".
وبحلول القرن الخامس عشر، تبنى كل من المؤرخين العرب والأوروبيين هذه القصة الرمزية كدليل على انتشار وبائي حقيقي من الشرق إلى الغرب. بل يلاحظ المؤلفون أن بعض علماء الوراثة المعاصرين استندوا إلى المصدر نفسه لتبرير جدول زمني مضغوط لانتشار بكتيريا اليرسينيا الطاعونية من آسيا الوسطى إلى البحر المتوسط في أقل من عقد.
غير أن عمر وفانسي اكتشفا أن "رسالة" ابن الوردي كانت واحدة من ثلاث مقامات على الأقل كتبت عن الطاعون في نفس الفترة في العالم المملوكي، بما في ذلك واحدة للكاتب الدمشقي الصفدي. فجميعها تصور الطاعون كزائر مخادع يخدع البشرية – وهو أسلوب يهدف إلى نقل التأمل الأخلاقي والروحي، وليس التقرير الطبي.

اكتشاف حصن عمره 3000 عام في شمال سيناء مرتبط برحلة الخروج التوراتية
يذكر أن المقامة هي جنس أدبي كان يؤدى شفاهيا في جلسة واحدة، وازدهر في الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى كوسيلة للسخرية والتعليم الأخلاقي وإظهار المرونة. ومن خلال إعادة صياغة قصة ابن الوردي في هذا السياق، لم يصحح فريق إكستر سوء القراءة الذي استمر لقرون فحسب، بل سلط الضوء أيضا على كيفية تشكيل الأدب للذاكرة التاريخية لواحد من أشد الأوبئة البشرية قتامة.
وهذا الكشف لا يصحح خطأ تاريخيا فحسب، بل يفتح آفاقا جديدة لفهم كيفية تعامل المجتمعات مع الكوارث. فكما طور الناس خلال جائحة كوفيد-19 مهارات جديدة في الطهي والفن، كانت المقامات تمثل شكلا من أشكال الصمود الإبداعي في وجه الموت الجماعي. إنها تكشف كيف حول الناس المحنة إلى منحة إبداعية، وكيف استخدموا الأدب كآلية للتكيف مع الأزمة.
ومن منظور أوسع، يحررنا هذا الفهم من القيد الذي فرضته رواية الانتشار السريع، ويمكننا من إعادة دراسة حالات التفشي السابقة للطاعون، مثل وباء دمشق 1258 ووباء كايفنغ 1232-1233، بمنظور جديد.
فبدلا من التركيز على رواية الانتشار الخطي، يمكننا الآن دراسة كيفية تعامل كل مجتمع مع الوباء، وكيف تشكلت ذاكرة هذه الأحداث عبر الأجيال.
وهكذا تتحول قصة الطاعون من مجرد حكاية انتشار جغرافي إلى نافذة نطل من خلالها على روح العصور الوسطى، وكيف واجه الإنسان الموت، وكيف حول الخوف إلى إبداع، وكيف يمكن لسوء الفهم الأدبي أن يشكل رواية تاريخية لقرون طويلة.
المصدر: science blog
إقرأ المزيد
المصابون بـ"كوفيد طويل الأمد" يحملون في دمائهم علامات غريبة!
كشفت دراسة علمية حديثة عن اكتشاف قد يشكّل نقلة نوعية في فهم حالة "كوفيد طويل الأمد"، إذ رصد الباحثون تجمعات دقيقة غير طبيعية في دماء المصابين بهذا الاضطراب المزمن
نقوش أثرية بأربع لغات تؤكد تعاطي المصريين القدماء للأفيون
كشفت دراسة جديدة أن تعاطي الأفيون ربما كان عادة يومية ثابتة في حياة المصريين القدماء، حيث توصل علماء من متحف ييل بيبودي إلى أدلة ملموسة على ذلك.
"فراغات" مجهولة في هرم منقرع تحير العلماء!
تمكن باحثون من جامعة القاهرة والجامعة التقنية في ميونخ من تحديد شذوذين مخفيين مليئين بالهواء داخل هرم منقرع، ثالث أكبر أهرامات الجيزة، وذلك ضمن مشروع "سكان بيراميدز" البحثي الدولي.
أطلس رقمي جديد يكشف الحجم الحقيقي للإمبراطورية الرومانية
كشف "أطلس" رقمي جديد نشر يوم الخميس عن أن شبكة الطرق الرومانية القديمة التي امتدت لمسافة مذهلة تزيد بنسبة 50% عما كان معروفا سابقا، وهو ما يتحدى التصورات السائدة منذ زمن طويل.
تونس.. اكتشاف كنز فينيقي نادر يفشي أسرار طقوس قرطاج الدينية
أعلنت وزارة الشؤون الثقافية بتونس عن العثور على قناع نادر مصنوع من المرمر يعود تاريخه إلى نهاية القرن الرابع قبل الميلاد بموقع "توفاة صلامبو" في مدينة قرطاج.
في كرملين سوزدال التاريخي.. العثور على رفات المطران القديس هيلاريون
أعلن معهد الآثار التابع لأكاديمية العلوم الروسية أن فريقا من المتخصصين عثر خلال أعمال الترميم في كاتدرائية ميلاد السيدة العذراء بكرملين سوزدال على رفات تعود لمطران سوزدال.
لأول مرة.. العثور على رسالة خطية آشورية في القدس
اكتشف علماء الآثار قطعة فخارية يبلغ عمرها حوالي 2700 عام عليها كتابة مسمارية.
"الفرعون الذهبي في خطر".. أول رد مصري على تقارير تضرر مقبرة توت عنخ آمون
نفت وزارة السياحة والآثار المصرية ما وصفته بالادعاءات التي تناولتها صحف أجنبية حول تعرض مقبرة الملك توت عنخ آمون لخطر الانهيار نتيجة وجود شقوق بجدرانها وارتفاع نسبة الرطوبة.
التعليقات