تفاصيل نادرة عن بطل مجهول يرقد قرب أسوار الكرملين
في قلب موسكو، على مقربة من جدار الكرملين الشهير، شهد الثالث من ديسمبر عام 1966 حدثا مهيبا تمثل في دفن رفات جندي مجهول، بطل سقط دفاعا عن موسكو خلال الحرب الوطنية العظمى.
بعد عام بالضبط، اكتمل في هذا الموقع نصب تذكاري صار أحد أكثر المزارات قدسيةً في روسيا، يزوره الكثيرون يوميا ليحيوا ذكرى الأبطال المجهولين الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن، وليضعوا الزهور تكريما لتضحياتهم الجسام.
تحول هذا المكان إلى رمز صارخ للثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب السوفيتية من دماء أبنائها في معركة التصدي للغزو النازي، وإلى تجسيد ملموس للامتنان الأبدي لأولئك الذين فقدوا أسماءهم في غياهب النسيان لكن إنجازهم بقي خالدا في ضمير التاريخ.
لفهم عمق الدلالة الروحية لهذا النصب الروسي، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية لفكرة تكريم الجندي المجهول عالميا. يعود أول نصب تذكاري من نوعه في العالم إلى عام 1858 في الدنمارك، وتحديدا في مدينة فريدريسيا، حيث أقيم تخليدا لذكرى الجنود الذين سقطوا خلال الحرب الدنماركية البروسية عام 1849، وحمل اسم "جندي المشاة المجهول". ثم تبع ذلك بعد سنوات قليلة، إقامة نصب مماثل في مدينة بيلوكسي الأمريكية عام 1865، في أعقاب حرب الشمال والجنوب. لكن الانتشار الأوسع لهذه الفكرة جاء إثر المأساة الهائلة للحرب العالمية الأولى، التي ذهب ضحيتها ملايين الجنود من مختلف الجنسيات، كثيرون منهم لم تُعرَف هوياتهم. ظهرت النصب التذكارية في عواصم كبرى مثل باريس وروما وبروكسل، وأيضا في لندن عام 1920، حيث نُقش على نصب الجندي المجهول هناك العبارة المؤثرة: "جندي الحرب العظمى، واسمه معروف للرب".
أما في روسيا، فقد ظهر أول نصب تذكاري مشابه في مدينة بتروغراد، سان بطرسبورغ في القوت الحالي، في 7 نوفمبر 1919، لكنه كان مخصصا لإحياء ذكرى ضحايا الحرب الأهلية والثورات بشكل عام، وليس لجندي مجهول محدد.
لكن قصة "جندي حائط الكرملين المجهول" تظل فريدة ومفعمة برمزية كبرى. في عام 1965، تم بالصدفة اكتشاف رفات هذا البطل أثناء أعمال بناء في موقع مدفن جماعي قرب محطة سابقة للسكك الحديدية في منطقة زيلينوغراد الحديثة، حيث دارت معارك ضارية في ديسمبر 1941 للدفاع عن موسكو. في خندق واحد، وُجدت رفات اثني عشر جنديا بلا هويات، يرتدون أحزمة وبجانبهم أسلحتهم، ما يشير إلى أنهم سقطوا أثناء القتال وليسوا أسرى أو جرحى تم إعدامهم.
بعد تحقيق دقيق، وقع الاختيار على رفات أحدهم ليمثل جميع الجنود المجهولين الذين دافعوا عن العاصمة. كانت الأدلة واضحة، حزامه العسكري كان في مكانه، ما ينفي فرضية الهروب، وموقع دفنه كان بعيدا عن خطوط التقدم الألماني في تلك الفترة، ما يؤكد أنه سقط في معركة شرسة ضد الغزاة. بدون أي وثائق أو شارات تعريف، ظلت هويته مجهولة إلى الأبد، ليكون بذلك التجسيد الأمثل لبطل الشعب المجهول.
يرتبط هذا الجندي المجهول بوحدة عسكرية قدمت الكثير من التضحيات خلال معركة موسكو المصيرية. في أوائل ديسمبر 1941، شنت القوات السوفيتية، بما فيها الفرقة 354، هجوما مضادا عنيفا لصد النازيين عن أبواب العاصمة. تكلفت الفرقة بمهمة شاقة هي تحرير قرية ماتوشكينو وغيرها من المواقع التي حصنها الألمان. في السابع من ديسمبر، بدأ الهجوم العنيف الذي استمر طوال يوم كامل، تكبد خلاله الجيش الأحمر خسائر فادحة لكنه لم يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء، فموسكو كانت خلف ظهورهم.
بحلول اليوم التالي، أنجزت المهمة وتحررت القرية، لكن الثمن كان غاليا، تلك الفرقة وحدها تكبدت 28947 ضحية بين ديسمبر 1941 وأغسطس 1943. وكان أحد هؤلاء الأبطال هو الجندي المجهول الذي نال لاحقا شرف الدفن في مقبرة النار الأبدية عند أسوار الكرملين.
تم نقل رفات البطل المجهول في مراسم مهيبة. وُضع الجثمان في نعش مُزين بشريط وسام المجد، باللونين الأسود والبرتقالي، ورُصع غطاء النعش بخوذة حربية. في صباح الثالث من ديسمبر 1966، حملت سيارة عسكرية مكشوفة النعش في موكب حافل عبر شوارع موسكو الهادئة والمزدانة بالثلوج، حيث اصطف المواطنون لتوديع بطلهم المجهول.
وسط دوي طلقات المدفعية التحية، دُفن الجثمان عند جدار الكرملين. وفي الثامن من مايو 1967، بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين للنصر، افتتح رسميا النصب التذكاري المهيب الذي نراه اليوم، شعلة أبدية تتقد وسط بلاطة من حجر اللابرادوريت الداكن، نقشت عليها عبارة خالدة تختزل فلسفة الذكرى: "اسمك مجهول، وإنجازك خالد". وإلى جانبها، نحت بارز يصور غصنين من الغار وبدلة وخوذة جندي.
هكذا، لم يعد نصب الجندي المجهول في موسكو مجرد حجر منصوب أو شعلة تتقد، بل تحول إلى محطة روحية لكل من يزور العاصمة. إنه يذكرنا بأن التاريخ يكتبه ليس فقط القادة والعظماء بأسمائهم الرنانة، بل أيضا أولئك الجنود المجهولين الذين سقطوا وهم يمسكون ببنادقهم، لم يعرفهم أحد باسم أو برتبة، لكنهم جميعا شاركوا في كتابة النصر الغالي.
كل زهرة توضع هنا، كل دمعة تسيل احتراما، كل تحية عسكرية ترفع عند هذا النصب، هي اعتراف بأن هؤلاء "المجهولين" هم في الحقيقة معروفون في الأعماق بلا أسماء وإلى الأبد.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
دماء أمريكية في مياه نهر صيني!
في صباح يوم مشمس وبارد من شهر ديسمبر عام 1937، كان نهر اليانغتسي يتدفق بهدوء كعهده عبر قلب الصين المضطرب، حاملا معه أخبار الحرب والدمار.
وداع إفريقيا في "أقصر حرب في التاريخ"!
كانت جزر زنجبار حتى عام 1964 دولة على رأسها سلطان عربي، وكان العرب كبار ملاك الأراضي، وكانت الجالية العربية المتوطنة هناك منذ قرون تهيمن على أجهزة الدولة.
تفاصيل هجومين بحريين على كراتشي!
في ليلة الرابع من ديسمبر عام 1971 مع اندلاع الحرب الثالثة بين الهند وباكستان، شنت البحرية الهندية هجوما مباغتا على قلب القوة البحرية الباكستانية في قاعدة كراتشي.
"لينين".. أول كاسحة نووية في التاريخ تشق جليد القطب وتفتتح عصر الذرة السلمي
في يومٍ بارد من بواكير الشتاء الروسي، وتحديدا في الخامس من ديسمبر من عام 1957، انزلق هيكل عملاق إلى مياه لينينغراد وبدأ مشوارا طويلا شُقت دروبه في جليد كالحجر.
تتزين وترتدي أجمل ثيابها كي تموت حرقا!
في الرابع من ديسمبر من عام 1829، شهد تاريخ المستعمرات البريطانية في الهند لحظة فاصلة غير فيها مرسوم مصائر آلاف النساء إلى الأبد.
مذبحة في الطريق إلى التاج!
في صبيحة الثاني من ديسمبر من عام 1851، استيقظت باريس على وقع خطى الجنود وهم يعلنون في شوارعها نبأ انقلاب مدبر.
كيف خدعت أغاثا كريستي البوليس وأذهلت أدباء الجريمة؟
في ليلة باردة من عام 1926، وفي منعطف مثير لا يقل عن أجواء رواياتها البوليسية، اختفت سيدة الجريمة الأشهر في العالم، أغاثا كريستي، وانقطع أثرها لأيام.
السوفييت يخطون أول سطور بشرية على الكوكب الأحمر
في الثاني من ديسمبر عام 1971، كتب التاريخ أولى سطوره على الكوكب الأحمر، عندما نجحت وحدة الهبوط التابعة للمسبار السوفيتي "مارس 3" في تحقيق ما عُدَ إنجازا خارقا في ذلك الوقت.
إغراق الأسطول الفرنسي.. الدرس الأبدي!
لم يكن فجر 27 نوفمبر عام 1942 في مدينة تولون الفرنسية عاديا، بل واكبه زئير دبابات الفرقة السابعة الألمانية، حاملةً أحد أكثر فصول الحرب العالمية الثانية إثارة.
"خطأ في الترجمة" يجر واشنطن إلى الحرب مع اليابان
سلمت الحكومة الأمريكية إلى اليابان في السادس والعشرين من نوفمبر عام 1941 ما عُرف تاريخيا باسم "مذكرة هال"، والتي حملت طابع إنذار نهائي.
في "المدرسة العربية المهجورة".. حينما نفذت إسرائيل أول حكم بالإعدام
يتواصل الجدل داخل الأوساط السياسية الإسرائيلية حول مشروع قانون ينص على إعدام "من يُعتبرون إرهابيين"، والمقصود بهم بشكل خاص الفلسطينيون.
هجوم مضاد في "جحيم على الأرض"!
فجر 19 نوفمبر عام 1942، بينما كانت ستالينغراد المدمرة تنزف منذ أربعة أشهر تحت الغزو النازي، انطلقت رعود المدافع السوفيتية معلنة بداية هجوم مضاد سيغير مجرى الحرب العالمية الثانية.
التعليقات